الاخبارات المستقبلية في دائرتين
ومن المفيد الإلماح هنا إلى أنّ ما ورد عن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) ، من اخبارات عن أحداث مستقبلية ، وظواهر اجتماعية ، قد عُرِفَت باسم : أخبار الملاحم ، أو أخبار المنايا والبلايا ، يمكن أن يجعل ضمن دائرتين :
إحداهما : دائرة التوقيف : وما سبيله النقل عن مصدر الغيب فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ينقل لنا عن جبرائيل ، عن الله ( تعالى ) ، والأئمة ( عليهم السلام ) ينقلون لنا عن آبائهم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرائيل عن الله ( تعالى ).
وقد يعرض البداء لبعض المفردات من هذه الاخبارات ، كما سيأتي تفصيله في الفصل التالي أن شاء الله ( تعالى ).
الثانية : دائرة الخبرة : وما سبيله المعرفة الدقيقة بالظروف والأحوال ، ثم بالآثار والنتائج. من دون أن يكون ثمة حاجة إلى التوقيف.
فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو الإمام ( عليه السلام ) هو الأعرف والأدرى بحقيقة الظروف والأحوال التي تمرُّ بها الأمة ، وقد عَرَّفَ الناس ، بظروفهم وحالاتهم ، ووقف على حقيقة خصائصهم ومستوياتهم ، وطريقة تفكيرهم ، ونوع طموحاتهم ، وطبيعة تحركاتهم ، فإنه سوف يكون بمقدروه رسم آثارها ، ونتائجها بحسب ما لها من تدرُّج طبيعي ، وفق المعايير الواقعية ، التي يعرفها ( عليه السلام ) ويدركها أكثر من أي إنسان آخر ، ويكون إخباره ( عليه السلام ) بذلك على حدّ إخبار الطبيب الخبير بما ستكون عليه حالة رجلٍ قد جلس في حرّ الهاجرة ثلاث ساعات مكشوف الرأس ، تصهره أشعة الشمس.
فإذا أخبر بصورة قاطعة بالحالات والعوارض التي ستنتاب هذا الشخص ، فسوف يتحقق ما يخبر به جزماً وحتماً.
ولتكون إخبارات الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي كان من أعرف الناس بزمانه وأهله عمّا ستكون عليه الحال لو حكم الأمة بنو أمية ـ لتكن ـ من هذا القبيل ، فقد قال ( عليه السلام ) :
« .. وأيم الله ، لتجدُنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي ، كالنّاب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع ردّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم ، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم ، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربّه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، وقِطَعاً جاهلية. ليس فيها منار هدى ولا علم يرى » (1).
وقال لما رفع أهل الشام المصاحف :
[ أيها الناس ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وابن أبي معيط ، وابن أبي سرح ، وابن مسلمة ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم صغاراً ورجالاً ، فكانوا شر صغارٍ وشر رجالٍ .. الخ .. ] (2).
إلى غير ذلك من كلماته ( عليه السلام ) الكثيرة جداً فليراجع نهج البلاغة ، فقد جاء فيه من ذلك الشيء الكثير والشافي. مما يخبر فيه عليه السلام عن طبيعة هؤلاء الناس الذين عاش معهم ، وعرف أحوالهم وطموحاتهم ، ومفاهيمهم ، وطريقتهم في التفكير ، ونظرتهم للأمور ، وعرف أنهم لا يملكون من المبادئ والقيم ما يردعهم عن ارتكاب العظائم والجرائم ..
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ج 1 ص 183 و 184 والبحار ط قديم ج 8 ص 558 والغارات ج 1 ص 10 فما بعدها.
2 ـ البحار ج 32 ص 532 ، شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 2 ص 216 وصفين للمنقري ص 489 ، وينابيع المودة ج 2 ص 13 ، وراجع نظائر ذلك في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 332 والثقات ج 2 ص 351 والبحار ج 32 ص 546.