وكانت صديقة
القسم 19
الحياة في يثرب ينابيع متدفقة، و الأمل ينمو.. يكبر.. غدا شجرة خضراء أصلها ثابت و فرعها في السماء، والذين نصروا النبي يعملون دائبين في زروعهم، يرعون ماشيتهم. والذين هاجروا وجدوا لهم متسعاً من مكان في الأرض و في القلوب و غدا الجميع اُخوة على دين واحد كلهم من آدم و آدم من تراب، والرسول لا يفتأ يؤلّف بين القلوب.. يغسل عنها أدران الجاهلية.
على يعمل.. يسقى الزرع أو يفجر الأرض ينابيع، فيحصل لقاء ذلك صاعاً من شعير أو تميرات من نخيل يثرب.
كانت شمس الأصيل تغمر مسجد النبي بأشعتها الذهبية، ومساقط الضوء تتناثر من بين جريد النخل كدنانير ذهب نثرت فوق عروس.
جلس النبي في قبلته بعد ان انفتل من الصلاة و قد تحلّق حوله
أصحابه فبدا كقمر وسط النجوم، والزمن نهر يتدفق... تتدافع قطراته بانتظام...أو رحى كبيرة تدور و تدور، تهب السنين لمن يشاء و من لا يشاء. تفتح عيون الأطفال و تغمض عيوناً متغضنة الأجفان، تشدّ أعواد الشباب و تقوس قامات الكهول، فالجميع إلى زوال و يبقى وجه اللَّه... اللَّه وحده.
دخل المسجد شيخ عصف به الزمان. نحت وجهه و مزق ثيابه، يدب على الأرض دبيب نملة تبحث عن رزقها في يومٍ بارد.
هتف الشيخ و هو يتطلع إلى النبي كأنما يتطلّع إلى شمس تهب النور والدف ء:
- يا نبي اللَّه أنا جائع.. عريان.. اشبعنى واكسني.
أجاب النبي و قلبه يذوب تأثراً:
- ما أجدُ لك شيئاً.. ولكن الدالّ على الخير كفاعله... انطلق إلى من يحب اللَّه و رسوله، و يحبه اللَّه و رسوله، يؤثر اللَّه على نفسه.. انطلق إلى فاطمة..
التفت النبي إلى بلال:
- قم يا بلال.. فخذه إلى منزل فاطمة.
وقف الشيخ على باب يغضى إلى عالم من أمل.. عالم يهب الخير للجياع.
هتف الشيخ بصوت واهن ينوء بعب ء السنين:
- شيخ عصف به الدهر و أضر به الفقر.. واسينى يا بنت محمد. نظرت فاطمة حواليها.. لم تجد شيئاً تسعف به انساناً ينتظر بأمل. كان هناك في زاوية الحجرة جلد كبش مدبوغ، فطوته و ناولته الشيخ:
- خذه، فعسى اللَّه أن يختار لك ما هو خيرٌ منه.
دقّق الشيخ النظر و تمتم:
- و ما أصنع بجلد كبش يا بنت محمد!
وأصعب شي ء أن تهب المرأة زينتها... اساور من ذهب أو فضّة أو عقداً من لآلئ البحر، ولكن هناك ما يضى ء في نفس المرأة و يتألق في أعماقها تألق اللؤلؤ في الأصداف.
انتزعت فاطمة عقداً كان في عنقها و ناولته الشيخ الملهوف:
- خذه يا شيخ.. عسى اللَّه أن يعوضك به ما هو خيرٌ منه.
عاد الشيخ الهوينى إلى المسجد... كان النبي ما يزال جالساً بين أصحابه، قال الشيخ:
- يا رسول اللَّه أعطتني فاطمة هذا العقد و قالت بعه عسى اللَّه أن يصنع لك به خيرا.
دمعت عينا النبي:
- كيف لا يصنع اللَّه لك! و قد اعطتك ايّاه سيدة بنات آدم.
سأل عمار و كان حاضراً:
- بكم تبيع العقد يا شيخ؟
- بشبعة من الخبز و اللحم، و بردة يمانية استر بها نفسي و اُصلي بها لربى.
ملأ الشيخ كفيه دنانير من ذهب و دراهم من فضة فهتف جذلاً:
- ما أسخاك بالمال يا رجل!
غاب الشيخ برهة ثم عاد و بريق أمل يشع من عينيه، و كلمات الدعاء و تمتمات الثناء تنساب من بين شفتيه فقد أغناه اللَّه بعد فقر و أشبعه بعد جوع و كساه بعد عرى.
انطلق عمار إلى منزله.. فسكب عطراً غالياً على العقد ثم لفه
ببرده يمانيه و قال لفتاه و كان اسمه سهم:
- انطلق إلى فاطمة و سلمها العقد و أنت لها.
و انطلق سهم كسهم يجتاز البيوت حتى اذا وقف على باب فاطمة:
- السلام عليك يا بنت رسول اللَّه... العقد وأنا لك يا بنت محمد.
- العقد لى و أنت حرٌّ لوجه اللَّه.
كاد الفتى يطير فرحاً.. كان يفكّر بالحريّة.. يحلم بها.. وهاهي
اللحظة التي كاد أن ينساها تتحقق فيدخل الدنيا حرّاً طليقاً.. انه لن ينسى أبداً فاطمة... السيدة التي أعادت اليه شيئاً غالياً فقده منذُ زمن.
عاد مهرولاً و الفرحة تطفو فوق وجهه جبينه مشرق وفمه كهلال عيد الفطر. وجد نفسه يعود إلى عمار، هتف عمار:
- ما يضحكك يا سهم؟
- أضحك لبركه هذا العقد... اشبع جائعاً و كسى عرياناً وأغنى فقيراً واعتق عبداً ثم عاد إلى صاحبه.
و عندما أوت الطيور إلى أعشاشها... و عاد المزارعون إلى بيوتهم وساق الرعاة غنيماتهم... في طريق العودة و قد غابت الشمس... لتتألّق النجوم في صفحة السماء و يشرق القمر... كانت حكايات السمر تتحدث بقصة عقدٍ مبارك وهبته بنت محمد ثم عاد اليها بعد أن مست بركته جياعاً و عراة و عبيداً... و هبتهم الخبز و الكساء و الحريّة.